قنبلة في كعب حذاء على متن طائرة!
في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 2001، بينما كانت رحلة الخطوط الجوية الأمريكية رقم 63 تقطع الأجواء في طريقها من باريس إلى ميامي في ظروف بدت طبيعية تماما لكن لم تستمر طويلا.
فجأة، بدأت رائحة احتراق غريبة تنتشر داخل مقصورة الركاب، لتنقل المسار من رحلة عابرة إلى حدث استثنائي كاد أن يحول الطائرة ومن فيها إلى حطام. سمة فسيولوجية، تبدو للوهلة الأولى بسيطة، هي التي تدخلت في اللحظة الحاسمة لتكتب فصلا مختلفا في هذه القصة، وتنقذ أرواح المئات من موت محقق. كانت هذه الحادثة، التي اشتهرت فيما بعد باسم “حادثة متفجرة الحذاء”، نقطة تحول بارزة في تاريخ أمن الطيران، وكشفت عن هشاشة الأمان الظاهري الذي نعيش فيه، وعن قدرة الصدفة والعوامل غير المحسوبة على كتابة نهايات لم تُدرج في سيناريوهات الأشرار.
كان الراكب ريتارد كولفين ريد، الشاب البريطاني ذو الأصول الجامحة والمعتقدات المتطرفة، جالسا بهدوء بجوار النافذة دون أن يلفت الانتباه في البداية. لكن مع تصاعد شكاوى الركاب من رائحة الأدخنة، وتحرك مضيفة نابهة للبحث عن مصدرها، تحولت الأنظار نحو هذا الرجل الغريب. المضيفة وجدته يحاول بيأس إشعال عود ثقاب تلو الآخر، وبتفحص أقرب، اكتشفت أن محاولاته اليائسة لم تتوقف عند إشعال الثقاب، بل كانت تتجه صوب حذائه الرياضي الأسود الذي بدأ يحاول إشعاله.
هنا حدثت المواجهة، وانقض عليه الركاب وأفراد الطاقم في عراك محموم. كان ريد، بطوله الفارع الذي يتجاوز المتر والتسعين، يحاول المقاومة، لكن التكاتف السريع أدى إلى إخضاعه وتقييده باستخدام كل ما وقع تحت اليد، أسلاك سماعات الرأس، وأحزمة المقاعد، والأصفاد البلاستيكية الخاصة بالطائرة.
وبينما وخزت أحاسيس الخوف الجميع، طلب طاقم القيادة الإذن بالهبوط الاضطراري في أقرب مطار، وهو مطار لوجان الدولي في بوسطن. هبطت الطائرة، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، ورافقتها طائرتان مقاتلتان في الجو كإجراء احترازي، لتنتهي الرحلة المخيفة على مدرج المطار حيث تم اعتقال ريد ونقل الركاب المرعوبين إلى المحطة.
بعد فحص حذائه، كشفت التحقيقات عن السر الكامن المتمثل في أكثر من 280 غراما من المتفجرات البلاستيكية “سي – 4″، محكمة الإخفاء داخل نعل الحذاء المجوف. اعترف ريد لاحقا لعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه هو نفسه قام بتصميم وتصنيع هذا الحذاء القاتل، وكان يهدف إلى تفجيره خلال الرحلة.
خبراء المتفجرات أكدوا أن كمية المادة المتفجرة التي احتواها الحذاء كانت كافية لأحداث ثقب كبير في جسم الطائرة، ما كان سيؤدي حتماً إلى تفجيرها وتحطمها في المحيط الأطلسي.
أقر ريد في الرابع من أكتوبر 2002، بذنبه في ثماني تهم تتعلق بالإرهاب، لينال عقوبة السجن مدى الحياة دون إمكانية الإفراج المشروط، وهو يقبع الآن في أحد أشد السجون الأمريكية حراسةً، سوبرماكس أدكس فلورنسا.
لكن السؤال المصيري الذي ظل يتردد، لماذا فشلت هذه الخطة الماكرة في اللحظات الأخيرة؟ الإجابة تكمن في مفارقة غريبة تتعلق بعلم وظائف الأعضاء والظروف المناخية. في الحقيقة، كان من المفترض أن يسافر ريد في اليوم السابق، الحادي والعشرين من ديسمبر، لكن ضباط الأمن في المطار استشعروا خطرا ما ورفضوا صعوده، رغم أن تفتيشه لم يكشف عن شيء. سمح له بالسفر في صباح اليوم التالي. وفي ساعات الانتظار الطويلة قبل الرحلة، أصاب ريد توتر وقلق شديدان، جعلاه يتعرق بغزارة.
كان الطقس في باريس ذلك اليوم باردا ورطبا. يرجح المحققون والخبراء أن تعرقه الغزير المختلط بهواء ديسمبر الرطب، أدى إلى بلل الفتيل المخصص لإشعال العبوة الناسفة المرتجلة داخل حذائه، ما أفقدها فعاليتها وجعلها غير قابلة للاشتعال أثناء محاولته اليائسة المتكررة. لقد أنقذ التوتر نفسه، الذي غالبا ما يكون حليفا للإرهابي، الطائرةَ هذه المرة، عبر تحويله إلى تعرق أفسد الخطة.
لم تكن عواقب هذه المحاولة الفاشلة محدودة بالعجز عن تفجير طائرة واحدة فحسب، بل امتدت لتشكل منعطفا تاريخيا في إجراءات أمن الطيران حول العالم. أصبح خلع الأحذية، وخاصة ذات النعل السميك، إجراء إلزاميا في مراكز التفتيش الأمني بالمطارات، كتدبير مباشر ورد فعل على تلك الحادثة. هكذا، تحول حذاء ريد من أداة مخصصة للموت إلى رمز دائم للحيطة والحذر في سفر الملايين.
في الواقع، تمثل حادثة ريد حلقة في سلسلة طويلة من المحاولات الإرهابية التي حاولت استغلال ثغرات في نظام الأمن الجوي، وكل منها ترك إرثا من الإجراءات المشددة. في عام 1988، أدت قنبلة مخبأة داخل جهاز تسجيل “راديو كاسيت” في حقيبة مسجلة إلى تفجير طائرة بان أميركان الرحلة 103 فوق لوكربي بإسكتلندا، ما حذا بالسلطات إلى فرض فحص جميع الأمتعة المسجلة للمسافرين بحثا عن المتفجرات. وفي عام 1994، قام رمزي يوسف، العقل الإرهابي الخطير، بتجربة قنبلة مخبأة تحت مقعد في رحلة للخطوط الجوية الفلبينية، ما أسفر عن مقتل راكب واحد، في تجربة اعتقد أنها بروفة لمخطط أكبر.
ثم جاء أغسطس 2006 ليشهد إفشال مؤامرة بريطانية لإدخال متفجرات سائلة من مواد كيميائية محمولة داخل زجاجات مشروبات، لتفرض على إثرها القيود الشهيرة على السوائل في حقائب اليد بحيث لا تزيد عن 100 مليميتر. ذروة المكر بلغت في ديسمبر 2009، حين حاول عمر فاروق عبد المطلب تفجير طائرة باستخدام متفجرات على شكل مسحوق في ملابسه الداخلية، وهو ما أدى إلى تعميق استخدام أجهزة التصوير الإشعاعي المتطورة في المطارات.
هكذا، تظهر قصة ريتشارد ريد وحذائه المتفجر كيف أن مسار التاريخ وأمن العالم غالبا ما يتوقف عند تفاصيل صغيرة غير منظورة، قطرة عرق ولحظة توتر ويقظة مضيفة، أو بعض الركاب الشجعان. لقد كشفت هذه الواقعة، كغيرها من الحوادث، عن معركة دائمة بين إبداع الشر في اختراع أساليب التدمير، وسرعة تكيف الإجراءات الأمنية. رغم القسوة والرعب اللذين تحملهما هذه الأحداث، فإنها تذكر بأن السلامة مسؤولية الجميع وهي مستمرة، قائمة على التعلم من كل تجربة، مهما كانت مريرة، وعدم الاستهانة بأي علامة غريبة، حتى ولو كانت دخانا متصاعدا ورائحة احتراق خفيفة في الجوار.
المصدر: RT
