“بغداد آرت”.. لوحة بصرية جماعية توثق التاريخ بقصصه وتفاعلاته
بغداد – ــ آية منصور
في لحظة استثنائية تمزج بين الحلم والرمزية، تتواصلُ في القصر العباسي بالعاصمة بغداد أعمال مشروع “بغداد آرت”، ضمن فعاليات اختيار العاصمة العراقية عاصمةً للسياحة العربية لعام 2025، المشروع الذي انطلق في حزيران الماضي، يسعى برعاية ودعم حكومي إلى رسم أكبر لوحة فنية في العالم، ليضع رؤية فنية تُعيد كتابة تأريخ المدينة بلغة الألوان والخطوط والرموز.
في حديث خاص للوكالة الرسمية تابعته السابعة ، يرى المدير التنفيذي للمشروع، الفنان أمجد كويش، أن بغداد آرت لا يُمثل حدثًا عابرًا بقدر ما هو إطلاقة أولى لمشروع مستقبلي واسع المدى.
ويقول:”أسكن في هولندا، وتحديدًا بمدينة روتردام، وهي مدينة تحتضن كل عام مشروعًا باسم Rotterdam Art. في هذا المشروع، تتحول المدينة بأكملها إلى متحف مفتوح، حيث تُعرض الأعمال الفنية في الشوارع والكنائس والمتاحف، وفق آليات عمل تُبتكر وتتطور سنويًا، وهذا ما ألهمني في بناء تصور لبغداد آرت، كنقطة انطلاق نحو مشروع ثقافي بصري مستدام.”
ويُضيف كويش:”أردنا أن تكون بغداد حاضرة بفنانيها، بروحها، بجمالها، بتاريخها، لذلك كان لا بد أن نبدأ من الرسم، كونه أول أشكال التعبير الفني، ولأن التشكيل بطبيعته عمل فردي، فإن ما نفعله هنا يُعد استثناءً كبيرًا: لوحة تشكيلية جماعية لأول مرة، وهو أمر نادر في عالم الفنون البصرية.”
ويؤكد المدير التنفيذي أن المشروع “يوثّق تأريخ بغداد من نشأتها حتى اليوم”، لكنه لا يراه منجزًا شخصيًا أو حصريًا للفنانين المشاركين، بل يعتبره:”إنجازًا جماعيًا للجميع، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.”
لوحة تؤرّخ.. بلغة الفن
يذهب كويش في رؤيته إلى أن الفنون البصرية، وعلى رأسها اللوحات التشكيلية، ليست فقط أدوات للتجميل أو الزينة، بل وثائق بصرية تحمل رسائل زمنية.
ويُوضح:”كل المدن في العالم اليوم تجد أن فنانينها قد أرّخوا ما جرى فيها بالألوان والرموز، أذكر هنا أعمال بيكاسو، كما أستحضر تجربة الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي حمل في أعماله قضايا العراق وتحوّلاته، التاريخ لا يُكتب فقط عبر الأفلام أو الوثائق، بل أيضًا بالريشة والفرشاة.”
ويؤمن كويش أن اللوحة التشكيلية تتيح لغة محكية وبصرية في آن واحد، تجعل المشاهد قادرًا على التفاعل مع القصة من خلال الجماليات والرمزيات، ومن دون كلمات.
ويقول “نحاول عبر هذه اللوحة الجماعية أن نُقدّم صورة بغداد بما مرت به من ألم وجمال وتحوّل، ولكن بلغة تشكيلية تمنح المشاهد تجربة تأمل وفهم بصري عميق.”
لوحة بمقاييس مدينة… وشروط موسوعة غينيس حاضرة
وعن المساحة التي ستشغلها اللوحة، يوضح كويش أن حجم العمل سيتناسب مع رمزية بغداد نفسها.
ويقول في حديثه لـ “تم الاتفاق على أن تبلغ مساحة اللوحة 2000 متر مربع، وقد تمتد لتصل إلى خمس هكتارات بطول 400 متر، ما يمنحها فضاءً بصريًا هائلًا، هي ليست مجرد لوحة تُرسم، بل مساحة فنية واسعة تُبنى بحجم مدينة.”
ويؤكد أن “اللوحة ستُرسم على خامة القماش الكانفاس، باستخدام نفس المواد والألوان المعتمدة في الرسم التشكيلي الاحترافي، دون استثناءات أو معالجة صناعية خاصة”.
ويتابع كويش: “لم نُعلن عن المشروع إلا بعد استكمال كل الإجراءات، خصوصًا ما يتعلق بشروط موسوعة غينيس، من بين هذه الشروط أن تستغرق عملية تنفيذ اللوحة ثلاثة أشهر على الأقل، وأن تكون خاضعة للمتابعة والتوثيق طوال هذه الفترة لضمان الاعتراف بها رسميًا كأكبر لوحة فنية في العالم.”
برنامج تدريبي وموقع إلكتروني لاختيار الفنانين
المشروع وانطلاقه ثمرة تحضير طويل امتد منذ مطلع هذا العام، يضيف كويش”بدأت العمل على هذا المشروع منذ بداية السنة، واستحصلت الموافقات الرسمية من رئاسة الوزراء والدولة، وبعدها فقط أعلنا عن انطلاق بغداد آرت.”
ولأن المشروع يعتمد على مشاركة أكثر من مئة فنان شاب، يجري حاليًا التحضير لإطلاق موقع إلكتروني رسمي، سيكون منصة لتقديم الطلبات، إلى جانب مؤتمر صحافي قريب يُعلن فيه عن شروط المشاركة وآلية التقديم.
ويوضح كويش”سيُطلب من الفنانين الشباب إرسال نبذة عن سيرتهم الفنية، وسيُنظر في الأعمال السابقة والخبرات، فيما ستتولى لجنة فنية مختصة عملية الاختيار، وهي لجنة مستقلة تم الإعلان عنها سابقًا.”
وبحسب كويش، سيتم اختيار مئة فنان عراقي للمشاركة في تنفيذ اللوحة الجماعية، بإشراف فني مباشر من نخبة من الفنانين والمستشارين.
دعم حكومي وشراكات دولية: الفن العراقي في قلب المشهد العربي والعالمي
رغم أن المشروع طموحٌ على المستويين الفني واللوجستي، إلا أن الفريق القائم عليه لم يبدأ من فراغ، بحسب كويش، فقد حصل بغداد آرت على دعم معنوي رسمي من رئاسة الوزراء، بإشراف مباشر من مستشار رئيس الوزراء لشؤون السياحة والآثار والمغتربين عمر العلوي.
يُوضح المدير التنفيذي لمشروع بغداد أرت أمجد كويش، أن “الدعم تمثّل في تسهيلات رسمية ورعاية معنوية، فتحت الطريق أمامهم للبدء بالتواصل مع جهات استثمارية. ويقول:”نتواصل حاليًا مع مستثمرين وفاعلين من القطاع الخاص لاستكمال تمويل المشروع، فمثل هذه المبادرات تحتاج إلى أكثر من جهة مؤمنة بها.”
ويبين إنه “ولأن حجم اللوحة وطبيعتها يتيحان لها أن تتجاوز مكان التنفيذ، سيكون للعمل حياة فنية بعد إنجازه، وستحظى بجولة عرض واسعة داخل بغداد”.
ويوضح في حديثه “اللوحة ستُعرض في أماكن مهمّة داخل العاصمة، وستكون لها جولة تُشبه عروض الأفلام السينمائية الكبرى، وهناك شراكات قيد الترتيب مع فعاليات عربية ودولية، من بينها بينالي فينيسيا وبينالي دبي، حيث ستمثل اللوحة العراق بجناح خاص يُعرض فيه هذا العمل الفني العملاق.”
استعادة مكانة الفن التشكيلي العراقي
ولا يرى كويش أن بغداد آرت مجرد مشروع عرضي، بل يعتبره محاولة لإعادة الاعتبار للفن التشكيلي العراقي، الذي طالما أُهمل في ظل هيمنة الفنون الأخرى.
ويبين وجهة نظره بالقول “الفن التشكيلي مغيّب اليوم، ولا يأخذ حقه كما يجب، لا من حيث المساحات ولا من حيث التقدير، كثير من الفنانين الشباب يسألون أنفسهم: لماذا اخترت التشكيل؟ لماذا أرسم؟ في وقت لا توجد فيه صالات عرض كافية، ولا دعم حقيقي، ولا حتى فرصة لأن يرى الناس أعمالهم.”
لكن مشروع بغداد آرت قد يكون نقطة تحوّل بحسب كويش ويقول “هذا المشروع سيخلق مساحة قريبة من الفنان، تعيد الثقة، وتعيد الجمهور لمشاهدة الفن التشكيلي من جديد. سيشعر الفنان الشاب أن لوحته وموهبته تُشاهَد، تُحتَرم، وتُنتمي إلى مشهد ثقافي حي.”
شباب يرسمون مدينة… والموقع بانتظار الحسم
يُشدد أمجد كويش على أن المشاركين في تنفيذ اللوحة سيكونون جميعًا من الفنانين الشباب، في رسالة واضحة تعكس ثقة المشروع بالجيل الجديد من المبدعين العراقيين، وتمنحهم منصة غير مسبوقة للتعبير البصري الجماعي.
ويوضح “اللوحة هذه من رسم الشباب العراقي، ونحن نؤكد على ذلك، أردنا أن تكون هذه التجربة فرصة فعلية لهذا الجيل كي يقول كلمته من خلال الفن، ويضع بصمته في تأريخ بغداد المعاصر.”
أما عن الموقع الذي ستُنَفذ فيه اللوحة، فيوضح كويش أن “ساحة الاحتفالات الكبرى كانت الموقع المقترح منذ البداية، لما تحمله من رمزية واتساع، إلا أن إدراج المشروع ضمن فعاليات “بغداد عاصمة السياحة العربية” أتاح خيارات أخرى ممكنة.
ويضيف “هناك مواقع أخرى قيد الدراسة مثل متنزه الزوراء، لكن القرار النهائي سيتوقف على مقدار الدعم المادي الذي سنتمكن من تأمينه، نحتاج إلى مساحة تتناسب مع طبيعة العمل وحجمه، ونطمح إلى أن يكون الموقع امتدادًا للفكرة: مساحة خَلّاقة لعمل فني استثنائي.”
