من أزقة الطفولة إلى منصات التتويج.. حكاية بطل الجودو للمكفوفين طه رعد

من أزقة الطفولة إلى منصات التتويج.. حكاية بطل الجودو للمكفوفين طه رعد

بغداد – – آية منصور
حقق البطل العراقي، طه رعد جعفر، إنجازاً لافتاً بحصوله على المركز الثالث والميدالية البرونزية في بطولة الجائزة الكبرى للجودو للمكفوفين، التي أقيمت في مصر مؤخراً، ليؤكد حضوره المميز في رياضة طالما عدت من أصعب الألعاب القتالية، وليتأهل خطوة أقرب إلى أولمبياد لوس أنجلوس 2028. هذا الإنجاز، كما يروي طه، لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة سنوات من المثابرة والتحدي.


وقال رعد في مقابلة أجراها مع السابعة : “كنت لاعب كرة هدف وأنا صغير جداً في العمر، لكنني فشلت في تلك التجربة. عام 2013 دخلت عالم الجودو على يد المدرب رزاق محسن والمرحوم فاخر الجمالي، الأمين العام للجنة البارالمبية حينها. في الحقيقة، لم يكن دخولي للعبة عن قناعة شخصية فقط، بل بدفع من أصدقائي الذين سبقوني إليها، فوجدت نفسي أمام فرصة جديدة بعد خيبة كرة الهدف”.
وعن موقف عائلته، تحدث رعد: “أهلي كانوا محايدين تقريباً؛ لم يشجعوني بشكل مباشر ولم يعارضوني. نحن جيل نشأ عن طريق ألعاب الشارع، لم نعرف التكنولوجيا أو الإنترنت وكانت وسيلتنا للحياة باللعب خارج المنزل، كنا نلعب كرة القدم أو نخوض عراكاً في الأزقة المظلمة عند انقطاع الكهرباء. لذلك، عندما دخلت الجودو عام 2013 شعرت أنها امتداد طبيعي لذلك الإرث اليومي”.
وأضاف : “منذ أول يوم ارتديت فيه بدلة الجودو، أحسست أنني أمام عالم مختلف يسحبني بعيداً عن الكثير من الأمور السلبية. لم يطل الوقت حتى أثبت نفسي، وتمكنت من الفوز ببطولة العراق وأنا في عمر صغير. كانت تلك أول لحظة أشعر فيها بالنجاح الحقيقي، وأدركت أن المستقبل ينتظرني في هذا الميدان، وشعرت بالرضا والاكتفاء منذ تلك اللحظة، وكنت على يقين بأن ما بدأته سيوصلني إلى منصات التتويج، وهو ما تحقق اليوم بحصولي على البرونزية”.
طه، الذي يعد تجربته الرياضية مساراً بديلاً انتشله من الإحباط والفشل، يرى أن الجودو لم تكن مجرد رياضة، بل مدرسة حياة صقلت شخصيته وزرعت فيه الثقة بالنفس والإصرار.

حب البلاد في الملاعب
وصف اللاعب طه رعد، أجواء بطولة الجائزة الكبرى للجودو للمكفوفين، التي اختتمت في مصر مؤخراً، بأنها ناجحة ومنظمة على أعلى مستوى، مشيراً إلى أن مصر تُعد الدولة العربية الوحيدة التي تستضيف مثل هذه البطولة بشكل دوري مرة كل سنتين.
وأوضح رعد: “هذه الميدالية هي الثالثة التي أحققها في مصر، منها ذهبية، والآن أضيف إنجازاً جديداً. المنافسة كانت صعبة جداً، خصوصاً بعد إخفاقي في بارالمبياد باريس وعدم تمكني من إحراز مركز متقدم، وهو ما جعل الضغوط النفسية والجسدية كبيرة عليّ. لكن رغم التعب والإرهاق تماسكت بصعوبة حتى النهاية”.
وواصل: “خلال المباريات لم يكن أمامي سوى خصمي، لكن في داخلي كنت أرى العراق دائماً، وأشعر أنني أمثل إرث الأبطال والشهداء. أنا حفيد أجداد عظماء، وكل القوة والعزم التي أقاتل بها أستمدها منهم”.
وعن أصعب مواجهة واجهها، قال : “كانت المباراة مع اللاعب الأوزبكي من أقوى التحديات التي خضتها. هو تفوق عليّ بجدارة، وكنت أمتلك حركة قوية واحدة لكنها كانت محفوفة بالمخاطرة، ولو نفذتها كان يمكن أن أتعرض للطرد. لذلك آثرت السلامة، وخسرت النزال أمامه، لكنني خرجت راضياً عما قدمت، بعدما أثبت قدرتي على الصمود وانتزاع ميدالية برونزية للعراق”.

ويرى طه رعد جعفر، أن حصوله على الميدالية البرونزية في بطولة الجائزة الكبرى للجودو لم يكن مفاجئاً، مشيراً إلى أن الإنجاز كان متوقعاً بحكم خبرته الطويلة ومشاركاته المتعددة على الصعيد الدولي.
وأشار رعد الى أن “الإنجاز لم يكن مشروطاً بالمركز الذي حققته، فأنا أعد مجرد وجودي ضمن الخمسة الأوائل إنجازاً شخصياً مهماً. لدي أكثر من عشر مشاركات خارجية، ولست جديداً على عالم الجودو، لكن طموحي دائماً أكبر من مجرد المركز الثالث، فأنا أسعى للأفضل في كل بطولة”.
وأضاف: “بطولات الجودو للمكفوفين ليست سهلة، إذ يشارك فيها عدد كبير من الدول ويجري تنظيمها وفق معايير عالية وصارمة، ما يجعل المنافسة شديدة وقوية”.

رسالة لذوي الهمم
ووجه جعفر رسالة خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة قائلاً: “رسالتي للجميع، خصوصاً من ذوي الإعاقة، أن المجتمع يمنحكم الفرصة حين تثبتون أنفسكم. من يقاتل على فرصه بالحياة سيُعامل باعتباره قوياً وقادراً. أثبتوا لأنفسكم وللآخرين أنكم تستطيعون الوصول إلى المكان الذي تطمحون إليه”.
ويوضح البطل طه رعد، أن تحضيراته لبطولة الجائزة الكبرى كان جيداً، مبيناً أن الاستعداد كان معسكراً تدريبياً في مدينة الحلة بمنتجع بابل، تخللته وحدتان تدريبيتان يومياً منذ مطلع شهر نيسان الماضي.
وبين رعد أن “المعسكر كان في مكان جميل بمدينة الحلة، لكن بشكل عام إعدادنا كان بسيطاً جداً مقارنة بحجم البطولة. اللجنة البارالمبية لم تقصر معنا، لكنها تعاني من غياب التخصيصات المالية منذ عام كامل، إذ لم تُصرف ميزانيتها. اليوم نعيش على المنح التي تُمنح للمنتخب، وسافرنا بهذه الإمكانات المحدودة. نحن نتمنى من وزارة المالية ورئاسة الوزراء الإسراع في صرف مستحقات اللجنة، لأن وجود الأموال يجعلنا قادرين على التخطيط المبكر لمعسكرات ومشاركات مهمة بشكل أفضل”.
وبيّن أن طريق التأهل إلى أولمبياد لوس أنجلوس 2028 ليس سهلاً، إذ يتطلب جمع النقاط من خلال المشاركة المتواصلة في البطولات: “الرياضات الفردية مثل الجودو تحتاج إلى مسار تأهيلي طويل، وكل مشاركة نشارك فيها تمنحنا نقاطاً تساهم في الوصول إلى المراتب العشرة الأولى المؤهلة للأولمبياد. لكن تقليص مشاركاتنا بسبب نقص التمويل يقلل فرصنا، ويضعنا في قرعة صعبة مع لاعبين أقوياء جداً”.
ويضيف: “طموحنا لا يتوقف عند لوس أنجلوس 2028، بل نسعى لمواصلة المسيرة حتى الأولمبياد الذي يليه. نحن قادرون على التطوير إذا توفرت لنا الإمكانات، وكل ما نحتاجه هو دعم حقيقي ومستحقات تصرف في وقتها.

التزام طوال العام
وتحدث طه رعد عن أسلوبه في تطوير مستواه وتحسين تدريباته، مشيراً إلى أن التزامه المتواصل كان عاملاً أساسياً في تحقيق إنجازاته الأخيرة.
وقال لـ: “أعد التزامي بالتدريب على مدار السنة مع استراحات قليلة هو إنجاز بحد ذاته. أتابع باستمرار الأبحاث العلمية المتعلقة بالتغذية والتدريب، وأعمل على سد نقاط ضعفي بشكل منهجي. هدفي أن أطور نفسي باستمرار، ولهذا أتعامل مع التدريب كرسالة أكثر من كونه مجرد واجب رياضي”.
وبيّن أن مثله الأعلى لا ينحصر في رياضة الجودو، بل يستلهم من رياضات أخرى: “أنا متأثر كثيراً برياضة التنس، وأحب الرياضيين الذين يبذلون جهداً كبيراً وشغفاً حقيقياً ليصلوا إلى أعلى المستويات. بالنسبة لي، الشغف وحب الرياضة أهم من المكسب المادي، وهذا ما يدفعني إلى الاستمرار”.
كما أشار إلى الدور الكبير الذي تؤديه عائلته في مسيرته الرياضية قائلاً: “العائلة عنصر مهم جداً في دعمي اللاحق، حيث كان لنجاحي وتوفقي في هذه الرياضة أثر كبير بهم جعلهم يمدوني بالطاقة، فهم يساعدونني ويتحملون معي أعباء كثيرة، وخاصة والدتي التي تهتم بتوفير احتياجاتي الغذائية وتساندني بشكل يومي”.

ويستعيد بطل الجودو العراقي طه رعد، أبرز اللحظات التي تركت أثراً عميقاً في مسيرته الرياضية، مؤكداً أن مشاركته في بارالمبياد باريس كانت واحدة من التجارب التي لا تُنسى.
وأوضح رعد: “من أكثر اللحظات التي أثرت فيّ كان تأهلي إلى بارالمبياد باريس. مجرد دخولي إلى القاعة أحسست بوجود عشرات الجماهير من مختلف الجنسيات كان شعوراً مهيباً، يشبه أجواء كرة القدم العالمية. القاعة كانت ممتلئة بالكامل، والاهتمام الإعلامي كبير، وهذا منحني حافزاً إضافياً”.
وأشار إلى موقف لا يزال يفتخر به: ” في إحدى المباريات المهمة عندما لعبت نهائياً ضد لاعب أميركي في الاسكندرية بمصر، وفي ظل الحس القومي العالي لدى الشعب المصري، وجدت نفسي محاطاً بمساندة جماهيرية قوية لأنني أمثل العراق أمام خصم أجنبي. فوزي في تلك المباراة كان لحظة مهمة جداً في مسيرتي كلاعب جودو مكفوف”.
ولفت إلى أن تجربته الشخصية جعلته أكثر قرباً من قضايا المكفوفين قائلاً: “أنا أتأثر كثيراً عندما أجد المكفوفين محاصرين من أهلهم بسبب الخوف عليهم. هؤلاء الشباب لديهم طموحات وأحلام كبيرة، لكن الخوف يمنعهم من الانطلاق. نحن نحاول أن نتواصل معهم ونشجعهم. شخصياً، أذهب يومياً إلى التدريب وأعود وحدي واستقل الحافلات العامة، وأتعامل مع هذه التحديات كجزء طبيعي من الشغف والحلم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *