15 كيلومترا من الجثث!

15 كيلومترا من الجثث!

بعد عشرة أشهر من اشتعالها، انتهت في الثامن عشر من ديسمبر عام 1916 واحدة من أطول معارك الحرب العالمية الأولى وأكثرها وحشية.

هذه المعركة تركت ندوبا عميقة في الذاكرة الجماعية لأوروبا وخسائر مروعة في صفوف الجيشين الفرنسي والألماني. جرت معركة فردان، التي سُميت بحق “مذبحة فردان” أو “مفرمة اللحم”، على رقعة جغرافية ضيقة حول المدينة التي تحمل الاسم نفسه، وتقع في شمال شرق فرنسا على ضفاف نهر ميوز.

كانت هذه النقطة تمثل جزءا حيويا من الخط الأمامي للجبهة الغربية في ذلك الحين. من الحادي والعشرين من فبراير حتى ذلك اليوم من ديسمبر، اندلع القتال على جبهة لا يتجاوز طولها خمسة عشر كيلومترا، تحولت خلالها الأرض إلى مشهد غريب من الخنادق المتشابكة والحفر الناجمة عن القصف، حيث واجه مئات الآلاف من الجنود الموت والظروف القاسية لأشهر متتالية، يقتل بعضهم بعضا بأعداد هائلة دون تحقيق تقدم حاسم.

كان الهدف الاستراتيجي الألماني واضحا وهو الاستيلاء على مدينة فردان، المفتاح الذي يهدد باريس نفسها، وإجبار فرنسا على الاستسلام من خلال إرهاق قواتها وإحداث ثغرة في دفاعاتها. بدا أن الخطة تنجح في الأيام الأولى وتقدم الألمان بسرعة مذهلة واستولوا على عدة حصون مهمة، أبرزها حصن دوامون، فيما بدا أن الدفاعات الفرنسية تتهاوى. لكن الزخم الهجومي لم يستمر، وفشل الألمان في تحويل هذا النجاح التكتيكي المبكر إلى اختراق استراتيجي حاسم.

 أعاد الفرنسيون تنظيم صفوفهم، وعززوا دفاعاتهم تحت قيادة جديدة، وتحولت المعركة إلى حرب استنزاف بامتياز. جاءت المحاولة الفرنسية في مايو لاستعادة حصن دوامون، ولكنها صدت. وفي السابع من يونيو، سقط حصن فو في الأيدي الألمانية، لكن تقدم الألمان توقف مرة أخرى بحلول الثالث والعشرين من الشهر نفسه. كان المشهد يتكرر، هجوم يليه رد فعل عنيف، ثم جمود، مع تبديد الأرواح والمعدات على نطاق لم يُشهد من قبل.

بدأ التحول الحقيقي مع الهجوم الفرنسي الكبير في الرابع والعشرين من أكتوبر. بعد أشهر من الدفاع والمعاناة، تمكن الفرنسيون من حشد قواتهم وتوجيه ضربة معاكسة قوية، استعادوا خلالها حصن دوامون ودفعوا بالخطوط الألمانية إلى الخلف لمسافة كيلومترين. ثم كانت الضربة القاضية بين الخامس عشر والسابع عشر من ديسمبر، حين شن الجيش الفرنسي هجوما مركبا ناجحا أجبر الألمان على التراجع مسافة 7.5 كيلومتر عن فردان، وأسروا خلاله أحد عشر ألف جندي واستولوا على مائة وخمسة عشر مدفعا.

بحلول نهاية المعركة، اضطر الألمان إلى التخلي عن موقفهم الهجومي واعتماد موقف دفاعي، بينما نجح الفرنسيون، مستفيدين من تفوق مؤقت في العدة والعدد، في استعادة معظم الأرض التي فقدوها في فبراير، لتعود خطوط الجبهة تقريبا إلى النقاط التي كانت عليها عند بداية القتال قبل عشرة أشهر. خرجت فرنسا منتصرة اسميا في الثامن عشر من ديسمبر، لكن الانتصار كان أشبه بنجاة من كارثة، إذ أن الحرب استمرت والمحرقة لم تنته.

كانت حصيلة تلك الأشهر العشرة مروعة. عبر “مفرمة فردان” مرت سبعون فرقة فرنسية وخمسون فرقة ألمانية. شارك ما يقارب مليونان وثلاثمائة ألف جندي في القتال، وقدّر عدد الضحايا بمئات الآلاف. تشير التقديرات إلى سقوط ما بين 305.000 و430.000 قتيل، بالإضافة إلى أعداد هائلة من الجرحى والمعاقين الذين فقدوا صحتهم أو أطرافهم في ذلك الجحيم. بشكل عام، فقد كلا الجيشين قرابة المليون رجل بين قتيل وجريح.

على المستوى الاستراتيجي، فشلت المعركة في تحقيق أي من أهدافها الحاسمة. لم يتمكن الألمان من إخراج فرنسا من الحرب، كما تآكلت قدراتهم العسكرية بشكل كبير. بالمقابل، لم يستطع الفرنسيون تحقيق نصر ساحق يغير مجرى الحرب. كانت النتيجة الواضحة هي الجمود والدمار الشامل.

لكن معركة فردان لم تكن مجرد تكرار للمأساة، فقد شهدت تطورات عسكرية مهمة. ظهرت فيها أسلحة وتكتيكات جديدة على نطاق واسع، مثل الرشاشات الخفيفة وقاذفات القنابل وقاذفات اللهب، ووصل استخدام القذائف الكيميائية إلى مستويات مكثفة. ازدادت أهمية الطيران بشكل كبير، حيث سعى كلا الطرفين للسيطرة على السماء، وأقام الألمان حواجز جوية لعرقلة استطلاع العدو. كما تغيرت تكتيكات المشاة، مع التركيز على تشكيل مجموعات اقتحام صغيرة مدربة خصيصا على الهجمات السريعة.

من الابتكارات اللوجستية البارزة، ولأول مرة على هذا النطاق، تم إعادة تجميع القوات وتعزيزها باستخدام المركبات الآلية على “الطريق المقدس” بين باريس وفردان. كما اعتمد الألمان بشكل كبير على القصف المدفعي المكثف، واستخدموا تكتيكات التضليل مثل الهجمات الاستعراضية في قطاعات أخرى لصرف الانتباه عن نقطة الهجوم الرئيسة، وبناء رؤوس جسور هجومية قريبة من أهدافهم.

في النهاية، أصبحت “فردان” رمزا أبديا لرعب الحرب العبثية وأثمانها البشرية الفادحة. كانت مفرمة جنونية حطمت مصائر مئات الآلاف من الشباب، وأثرت بعمق على ملايين آخرين من الأهل والأصدقاء في القرى والمدن الفرنسية والألمانية. بالنسبة لفرنسا، بقيت ذكراها دفاعا بطوليا يائسا عن الأرض، وشعارا للتضحية الوطنية. وبالنسبة للجانبين، شكلت صدمة جماعية هائلة هيمنت على الذاكرة الوطنية في فترة ما بين الحربين، وأصبحت مثالا صارخا على وحشية حروب الاستنزاف والجمود.

دخلت فردان التاريخ ليس كنصر أو هزيمة عسكرية تقليدية، بل كمعركة مثالية للخراب والعبث، محنة كبرى انتهت من حيث بدأت تقريبا على الخريطة، لكن الفارق الوحيد والحقيقي كان ذلك العدد الهائل من الأرواح التي أزهقت، وتلك الأجواء من الرعب والمعاناة التي طبعت جيلا بأكمله وبقيت نقطة سوداء في التاريخ.

المصدر: RT

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *